Admin Admin
الجنس : عدد المساهمات : 57 تاريخ التسجيل : 12/09/2009 الموقع : المغرب
| موضوع: الانسانية في مهنة التمريض الأحد سبتمبر 13, 2009 5:09 pm | |
| هناك في ذلك المشفى حيث ينام أبي يكون لليل طعم يختلف عن أي مكان آخر.. غرف المرضى تكاد تكون مظلمة إلا من بعض الضوء الخافت والذي يوحي بأن هناك إنسان يحتاج إلى الرعاية والهدوء.. الممرات خالية من المشاة ولا تسمع بها إلا بعض خطوات خفيفة وهادئة لطبيب تم استدعاؤه لرؤية مريض، أو ممرضة تتنقل بين الغرف للاطمئنان على مرضاها.. الهدوء يملأ المكان والسكون يغطي مساحات ليست بالقليلة .. وهناك يكون للصمت وجود ومعنى.. وهناك يكون الصمت سيد المكان ومليكه.. وهناك يتكلم الصمت ليحكي روعة الاهتمام ويروي معنى الرعاية.. ولا يقطع روعة ذلك الصمت إلا بعض تأوهات يطلقها بعض المرضى من حين لآخر.. أو نداءات بسيطة من ممرضة لأخرى تطلب منها مساعدتها في أمر ما... وقد يخيّل إليّ أحياناً أنني أسكن مدينة جميلة المبنى، عليلة النسيم، نقية الهواء، وبها الطبيعة تتجلى بأبسط صورها وأحلاها.. ولكنّها مدينة مهجورة إلا ممن لا يستطيعون المسير أو ممن يعشقون جمال الطبيعة وبساطتها.
في منتصف الليل وحين يهدأ أبي وينام، لا أجد نفسي إلا وقد ارتميت على كرسي يقع بجانب السرير.. أبحث فيه عن غفوات قليلة تعيد إليّ نشاطي حين يستيقظ أبي في الصباح.. وقد يتخلل تلك الغفوات القليلة استغاثة مريض أو كابوس مخيف أو حلم جميل أو رغبة عارمة للاستلقاء على فراش وثير.. إلا أن أكثر ما شدني خلال غفواتي تلك هو منظر تلك الممرضة الشابة وهي تقبل كل ليلة تدفع بيديها ذلك الجهاز والذي يصدر بعض الصوت الخفيف لينبئ عن قدومها لتطمئن على أبي.. وحال دخولها تبدأ بمتابعة حالته الصحية.. تبدأ بضغط الدم ثم نسبة الأكسجين ثم نسبة السكر ولا تنسى أن تقيس درجة حرارة الجسم ثم تناوله دواءه وبعد ذلك تخبرني عن حاله لأطمئن وتغادر المكان سريعاً.. وربما اضطرها حال أبي أحياناً أن تستدعي له الطبيب. كثيراً ما كانت ابتسامتها وبشاشة روحها وشغفها لمهنتها موطناً للتساؤل في داخلي.. وكم تمنيت أن أكشف لها يوماً عن إعجابي بثقتها في نفسها وتساؤلي عن سر تعلقها بهذه المهنة الثقيلة واستغرابي لحالها.. إذ كيف لإنسان يعيش بين آلام المرضى وأنّات شكواهم وبين كل تلك المشاهد الحزينة وكل تلك المواقف المؤثرة.. كيف له أن يملك مثل تلك الابتسامة الواثقة.. وكيف لمن ينوء بحمل تلك الأمانة الثقيلة أن يحمل معها روحاً خفيفة تستعجل خدمة المريض وتبادر لتقديم العون لمن يحتاج.. وقد تيقنت وجزمت أن ما تحمله في داخلها من أفكار وقناعات تتجاوز بمسافات كبيرة ما أراه ظاهراً في أفعالها.. ولذلك عزمت على اكتشاف تلك الأفكار والقناعات بالطريقة التي تعطيني جواباً كافياً عمّا يختلج في صدري من تساؤلات وفضول.. فكرت مليّاً بطريقة مناسبة أفتح بها نقاشاً معها والذي سيفضي إلى عالمها الداخلي.. ولكنني قررت أن أكاشفها صراحاً بما في نفسي لظنّي الكبير أنها من فئة البشر الذين يفعلون كثيراً ويتكلمون قليلاً.. وهذا الصنف من الناس لا يبادر بالحديث عن عالمه الداخلي إلا أن يجد من يحترم أفكاره فينطلق معه بالحديث بكل ثقة وثبات.
... نعم إنها قادمة، فصوت ذلك الجهاز يقتحم عليّ هدوء الغرفة وسكونها.. وكأنه يقول لي: آن لك أن ترضي فضولك.. دخلت الغرفة كعادتها.. لحظتني سريعاً وبدت علامات الاستغراب على وجهها.. إذ وجدتني على غير عادتي مستيقظاً وفي كامل قواي العقلية.. ولكنها أكملت طريقها إلى أبي كما تفعل في كل مرة.. أنهت قراءاتها ثم التفتت إليّ وقالت: اطمئن.. صحته على ما يرام إلا أن نسبة الأكسجين لم تزل تقل عن التسعين ونحتاج إلى الطبيب كي يعاين حالة والدك.. توجهت إلى الهاتف واتصلت بالطبيب وأخبرها أنّه سيأتي بعد بضع دقائق.. بدأت تلملم أدواتها وترتب جهازها في انتظار الطبيب...
ألا تملّين؟؟؟؟
كان هذا السؤال هو ما قادني إلى تلك المحادثة التي أعتبرها نادرة ومميزة.. استمرت في ترتيب جهازها... بعد لحظات التفتت نحوي ونظرت إليّ بنظرة تمتلئ حياءً بقدر ما امتلأت نفسي فضولا.. وتقطر خجلاً بقدر ما احترمتُ استجابتها لسؤالي.. ثم قالت: أملُّ من ماذا؟ من رعايتي لوالدك أم من علامات الاستغراب والتعجب والفضول والتي تكاد أن تسيطر على حواسك وفكرك!! كانت مفاجأة بالنسبة لي أن أكون مكشوفاً لها بهذه السهولة ممّا زاد في فضولي لاكتشافها.. ولكنه أيضاً جعلني أجزم أنها من ذلك الصنف من الناس الذي يتكلم قليلا.. وتيقنت أنها ستنطلق معي في الحديث.. وصرت أكثر استرخاءً.. قلت لها: أعني.. ألا تملّين من هذا العمل الروتيني والذي يصاحبه ما يصاحبه من أذى المريض وشكواه وحساسية التعامل معه وما يصاحبه من مواقف ومشاهد مؤثرة تجعل منه عملاً يعجّل بانقضاء العمر؟ بدا سؤالي لها وكأنه قد لامس قضية تسكن في أعماقها منذ زمن بعيد.. أبعدت جهازها جانباً وأقبلت عليّ بعالمها الداخلي وبكل ثقة قالت: تتكلم عن هذه المهنة وكأنك لا تعرف ما معنى أن يكون هناك مريض وممرضة.. قلت: أن يكون هناك مريض وممرضة يعني أن يكون هناك شيء آخر اسمه مهنة التمريض.. قالت وهي تومئ برأسها تعبيراً عن رفضها لجوابي: ما زلت تنظر إلى مهنة التمريض بالطريقة التي تنظر بها إلى المهن الأخرى.. زاد فضولي أكثر من ذي قبل.. فأنا في طريقي لأن أعرف شيئاً يجهله الكثير من الناس حتى المريض نفسه.. استطردت قائلة: عندما تنظر إلى أي مهنة أخرى تجد قيمتها قد ارتبطت بنتائجها.. أما طبيعة عمل تلك المهنة فهي التي تحدد المتعة التي تحتويها والألم الذي يخالطها... إلا مهنة التمريض!! لاحظت علامات الإعجاب على وجهي مما جعلها تنطلق أكثر في حديثها معي.. قالت: انظر إلى من يصنع الخبز.. قيمة مهنته بجودة ما ينتجه من الخبز.. إلا أنها مهنة فيها الكثير من الألم وخصوصاً في لحظة إخراج الخبز من التنور.. وكذلك يكون عامل البناء والمهندس والمعلم.. وقد تكون المهنة ذا قيمة عالية وطبيعة عمل ممتعة كعازف العود الذي يصنع مقطوعة رائعة ويستمتع في صنعها.. ولو جعلنا مهنة التمريض تحت هذا المقياس لأصبحت مهنة مملة ومتعبة تعجّل بانقضاء الأجل كما قلت.. ولكنّها مهنة تملك سراً وحيداً يختص بها وحدها.. بقيت لحظات وأنا أحاول أن أصدق ما أراه وأسمعه.. كل هذا الفهم وتلك القناعات تسكن في أعماق ذلك الإنسان الهادئ الخجول الصامت!! وكأني بصمت المكان يخبر عن صمت الإنسان.. ذلك الإنسان الملئ الذي يفعل أكثر مما يتكلم وإن تكلم كان كلامه واضح وموزون... سألتها وكلّي شغف لسماع إجابتها: وما الذي يميّز مهنة التمريض عن غيرها؟ أغمضت عيناها قليلاً وأخذت نفساً عميقاً.. ثم فتحت عيناها بعد أن عمّها سرور داخلي كشفته تلك الابتسامة المشرقة والتي نطقت بها شفتاها وامتلأ بها محيّاها.. وكأنها تنتظر هذه اللحظة منذ زمن بعيد.. كحبيب جاء على فاقة.. قالت: أما سر مهنة التمريض فهو عالم الإنسان وفضاء الإنسانية.. تملّكتني الدهشة مما أسمع وأرى وزاد شغفي لما عندها ورجوتها أن تكمل ما لديها دون توقف.. قالت: أما قيمة مهنة التمريض فليست بنتائجها ولا طبيعتها.. ولكنّها تستمد قيمتها من قيمة من تتعامل معه.. قيمة من تتعب الممرضة ليرتاح،تسهر لينام، تحتوي أنينه ليهدأ وتحتضن شكواه ليسلو.. تستمد قيمتها من قيمة الإنسان الذي خلقه ربه في أحسن تقويم.. قيمة من فضّله الله سبحانه على سائر الخلق كما قال: (ولَقد كرمنا بني آدمَ وحَملْناهُم في البَرّ والبحْرِ، وَرزقْناهم مِنَ الطّيباتِ وفضّلناهم على كثيرٍ ممّن خلقنا تفْضيلا).. قيمة الإنسان الذي يملك جسداً وروحا.. عقلاً وقلبا.. مشاعر وأحاسيس... قيمة الإنسان الذي يحمل في داخله الخير الكثير.. قيمة الإنسان الذي وُجد على هذه الأرض ليعبد رب السماوات والأرض.. قيمة الإنسان الذي يشعر بأهميته في هذه الحياة كما تشعر أنت بأهميتك وقيمتك..
توقفت وهي تلتقط بعض أنفاسها بعد هذا الاندفاع في الإجابة.. ولعمري إنها ثورة قادمة من داخل أعماقها يُنبئ عنها صمتها الخارجي.. قلت لها: هذا كلام صحيح ومعقول ولكن ما علاقة قيمة هذه المهنة بطبيعتها وما هو الرابط بينهما ؟ قالت: مهنة التمريض هي المهنة التي ترتبط طبيعتها بقيمتها.. عندما تتعامل مع عالم الإنسان لا بد وأن تنطلق من فضاء الإنسانية.. في ذلك الفضاء ستجد الحب بكل معانيه.. ستحب الشيخ الكبير كما تحب أباك.. وستحب الطفل الصغير كما تحب أخاك.. وستحب الخير الموجود في كل إنسان.. في ذلك الفضاء ستجد العطف والرحمة، وهما من سيجعلان منك إنساناً هادئاً مع الآخرين.. في ذلك الفضاء ستجد الصبر ليعطيك الوقت الذي تحتاج لتحتوي ألم المرضى وأنينهم.. في ذلك الفضاء ستجد التواضع ومساعدة المحتاج.. في ذلك الفضاء ستجد الأمل وهو يزيل الألم وستجد الرجاء وهويبعد اليأس وستجد الأمن وهو يمنع الخوف.. ومن فضاء الإنسانية ستجود بالمشاعر الجميلة والأحاسيس الرائعة.. وسترى ذلك الفضاء بكل ما يحتويه من معاني وهو يقضي على كل الآلام وعلى الأنين والشكوى وعلى كل تلك المشاهد الحزينة والمؤثرة.. سترى فضاء الإنسانية وهو يجعل من الممرضة إنسانة واثقة وراضية وعاشقة لمهنتها ومستمتعة بإنسانيتها.. وهنا فقط سيزول عجبك وسيرضى فضولك.. توقفت عن الحديث فجأة.. بدأت تلتفت يمنة ويسرة وكأنها تستكشف ما الذي حدث.. اكتست وجنتاها بحمرة الخجل.. عدّلت من وقفتها ثم استدارت وأسرعت لذلك الجهاز تعبث به لتطرد عن نفسها ثورة أعماقها.. أما أنا فما زلت أسبح في خيال أفكارها المتقنة وعباراتها الموزونة وكلماتها الجذابة.. وعلمت أنني إنما كنت في حوار ساخن ومثير مع العالم الداخلي لتلك الممرضة الشابة.. وما زلت كذلك حتى رجعت إلى عالم الكرسي والصمت عندما سمعت الطبيب يسلّم بعد دخوله ثم يسأل تلك الممرضة عن حال أبي.. وبعد برهة غادروني إلى خارج الغرفة بطلب من ممرضة أبي...
الساعة العاشرة صباحاً... كنت أغادر المشفى وقد ملأت الدموع عيوني والحزن قلبي على وفاة أبي وفراقه إلى الأبد... وفي نهاية الممر حانت منّي التفاتة إلى الغرفة التي كنت فيها مع أبي.. وهناك كانت تقف تلك الممرضة الرائعة ترقب ذهابي وكأنها تودعني.. وكأنها تريد أن توصيني خيراً بجزءٍ من أعماقها أصبح ملكاً لأعماقي.. رفعت يدي ولوّحت لها بالوداع.. وأقسمت في نفسي أن أحفظ لها وصيتها.. سأجعل تلك الأفكار والقناعات جزءً من نفسي.. سأجعلها تخالط روحي وعقلي لتحكيها أفعالي وينطق بها لساني ويكتب بها قلمي...
وسأظل أسير في حياتي من فضاء الإنسانية إلى عالم الإنسان ... منقول | |
|
salma
عدد المساهمات : 1 تاريخ التسجيل : 11/10/2011
| موضوع: رد: الانسانية في مهنة التمريض الثلاثاء أكتوبر 11, 2011 9:39 am | |
| بارك الله فيك اخي على هذا الموضوع القيم الذي قربنا اكثر على مهنة الممرضة ودورها المهم في المجتمع
| |
|
Admin Admin
الجنس : عدد المساهمات : 57 تاريخ التسجيل : 12/09/2009 الموقع : المغرب
| موضوع: رد: الانسانية في مهنة التمريض الخميس أكتوبر 13, 2011 2:43 am | |
| - salma كتب:
- بارك الله فيك اخي على هذا الموضوع القيم
الذي قربنا اكثر على مهنة الممرضة ودورها المهم في المجتمع
و فيك بارك الرحمن احتي
اهلا بك بيننا | |
|